بقلم: هيثم يحيى الخواجة
على الرغم من اعتراف المجتمع العربي بما يسمى أدب الطفل منذ اوائل سبعينيات القرن الماضي،
فإن الكثير من المؤسسات والهيئات الثقافية والتربوية لم تمنهج خططًا ذات فاعلية لدعم هذا الأدب من جهتين: الأولى تتعلق بتحديد سماته وأصوله وقواعده ومقاييسه النقدية، والثاني يخص دعم الكتاب المبدعين في الأجناس الأدبية التي تتوجه الى الأطفال.
وإذا أضفنا إلى ذلك ضعف الأساليب والقوانين التي تحمي الأطفال من الغش المنتشر والمتراكم في الأرجاء، فإن أطفالنا بحاجة ماسة الى قصص خلاقة تعلمهم ، وتمتعهم ، وتثري خيالهم ، وتبني شخصيتهم، وتفتح مداركهم، وتقويهم، وتبعد عنهم التلوث الثقافي الذي يهدد بطوفان لا تحمد عقباه.
وأجزم بأنه لا خيار أمام أمتنا العربية من تغيير الأساليب وشحذ الهمم من أجل أدب طفلي متميز، ولا خيار – أيضاً- من ضرورة استغلال وتوظيف التقنيات الحديثة لخدمة أدب الأطفال لكي نتخلص من التشويش والتشكيك في أهمية هذا الأدب، وهذا لا يتحقق إلا اذا أعطي القوس باريها وتم الانحياز كليًّا للإبداع الحقيقي الذي يفيد أطفالنا إذ لا يكفي أن نعترف بأهمية أدب الأطفال دون أن نسهم علميا في النهوض بهذا الأدب وحمايته ودفع مسيرته.
ومن البديهي القول: إن طفل اليوم غير طفل الأمس ، وإنه لا يكمن أن تقدم له تجارب فطرية او إبداعات مبتدئة ، ذلك لأن الكبار يحملون أمانة كبيرة تجاه أطفالهم، ونظراً لأن الغث أكثر من الثمين وإن هذا الغث يكتسح الأسواق وهو يتستر وراء الأغلفة الجميلة والأوراق الأنيقة فإنني أجد من الضرورة التصدي لهذا الأدب والإنارة على الأدب الجيد لكي يعرف الكبار الكتب التي تستحق الاقتناء، وبالتالي التي يمكن أن يقرأها الأطفال ، ويستفيدوا من أفكارها.
وتعد الكاتبة “تغريد عارف النجار” من الكاتبات اللواتي يشتغلن على قصة الطفل بروية وهدوء ، ومن خلال خبرة واضحة في فن القص والموضوعات التي تهم الطفل، وسأختار بعض النماذج من “سلسلة الحلزونة” لألقي الضوء عليها وأقارب أفكارها وفنياتها. ففي قصة أنا مدهشة /1/ تبدأ الكاتبة قصتها بسؤال مثير يدعو الى المتابعة والاستكشاف: »مرحبا يا أصدقائي .. أنا جود المدهشة، نعم ..حقاً أنا مدهشة! هل تريدون أن تعرفوا لماذا ؟ إذًا اقلبوا هذه الصفحة /2/ نكتشف بعد ذلك ان والد جود مهندس نشيط ، ويحب ابنته وأن أمها طبيبة تصطحبها إلى العيادة، كما يصطحبها أبوها الى الورشة أحيانًا.. الأم تقرأ القصص لجود قبل نومها، وتعترف جود بأنها تحب أخاها زيد وتكره أن يشد شعرها.
كما تبوح بسعادتها عندما ترقص وترسم وتتخيل مع أختها جمانة .. أما جدها فهو يحب قراءة الصحيفة بعد وجبة الغداء، ويغفو وهو يقرأ فتضحك الجدة، وتضحك جود وأخواتها معها . إن جود تحب جدتها لأنها تصنع الكعك اللذيذ وتساعدها في ذلك دائما، وهي تسعدعندما تلعب مع سمير ورفاقه لعبة كرة القدم ، وخاصة عندما تزور صديقتها هبة وتلعب معهاوتفرح وتمرح.
لقد أرادت الكاتبة أن تلتقط مشهدًا فاعلاً في حياة أسرة ، وأن تبرز حب جود لأفراد الاسرة واحدًا واحدًا، كما تبرز ما يزعجها، وفي هذا أفلحت الكاتبة تغريد عندما ابتعدت عن المثالية المطلقة فاقتربت من الواقع الحياتي. فالطفل كما يفرح يبكي وينزعج، كما أفلحت في اختيار لغة عذبة واضحة تناسب الفئة العمرية الثانية والثالثة وجعلت الرسوم تندرج مع الكلمة بحيث تحقق المتعة البصرية دوراً مؤثراً كما تحقق ذلك الكلمة بمعانيها ودلالاتها “ولكنها حين تراني أعبث بحاجاتها ، تصرخ في وجهي وتقول : اتركي أشيائي ، اخرجي من غرفتي حالاً”/3/ وفي قصة ليلة مظلمة للمؤلفة نفسها تجعل الرائي / التلفزيون/ – أحد المخترعات الحديثة الذي دخل البيوت كلها وصار جزءًا من أفراد الأسرة وشخصية من شخصيات الاسرة.
في هذه القصة يغادر الوالدان البيت لحضور حفل زفاف، بينما تجلس جمانة مع جود لمشاهدة برامج التلفاز، وبعد الانتقال من محطة الى أخرى تتوقف عند برنامج خاص بالأغاني ، فتغني وترقص وتضحك، وعندما ينتهي برنامج الرقص تبث القناة فيلمًا مرعبًا، وعلى الرغم من إظهار جمانة خوفها لجود تصر جمانة على رؤية الفيلم . لقد سيطر الخوف على جمانة وجود، ولما انتهى الفيلم سمعتا خربشة من جهة المطبخ ، فحملت جمانة مكنسة، وحملت مضرب التنس، واتجهتا على رؤوس الأصابع إلى المطبخ ، وهناك رأتا وحشًا كبيرًا فصرختا النجدة ، ثم ظهر صوت آخر فإذا هو القط ميلو يريد أن يدخل البيت .. وعندما عاد الوالدن من سهرتهما شعرت جود بالراحة ووعدت نفسها وعدًا قاطعًا بأنها لن تحضر أفلام رعب في حياتها.
تحاول الكاتبة في قصتها أن تطرح موضوعًا يفيد الأطفال في كل أسرة فهو مهم إلى درجة كبيرة إذ لا يجوز للأطفال بعد مشاهدة الأفلام الخاصة بهم أن يجلسوا أمام التلفاز، والتنقل من محطة إلى أخرى.
لقد سربت المؤلفة هذه الأفكار من خلال حكاية بسيطة تناسب عقل الطفل ويتفاعل معها، وقد بدا المعجم اللغوي في القصة ملائمًا للفئتين العمريتين الأولى والثانية، كما لعبت الصور المعبرة دورًا مؤثرًا في التشويق والتعبير والإعناء. وتتوجه قصة / لا تقلق يا بابا/ إلى تكريس ضرورة مساعدة الأولاد لأبيهم ففي صباح يوم الجمعة كتبت أم جود قائمة المشتريات، وكذلك فعلت جود، ثم طلبت أم جود من أبيها أن يذهب إلى المتجر لشراء الأغراض المطلوبة، ووعد الأب أن ينفذ ذلك قبل موعد مباراة كرة القدم النهائية بين إيطاليا وفرنسا، وفي الطريق إلى المتجر تعطل الدولاب فساعدت والدها بتبديله. وفي المتجر بحث الأب عن قائمة المشتريات فلم يجدها، وسرعان ما أعطت جود قائمتها لوالدها، الذي فرح كثيرًا، ولكن ومن دون قصد صدم المعلبات المعروضة في وسط المتجر، فوقعت المعلبات على الأرض ساعدت جود والدها في لم المعلبات.
وفي السيارة صار والد جود يسرع لكي يرى المباراة لاحظ ذلك شرطي المرور، فأمره بالتوقف، فتدخلت جود طالبة من الشرطي أن يسامح والدها الذي وعد بعدم السرعة ثانية. وفي البيت أخبر والد جود زوجته بأن جود أفضل مساعدة في العالم، وأمام التلفاز سعدت جود مع والدها عندما ابتدأت المباراة ، وشاهد الهدف الأول .. إلخ
إن تغريد عارف النجار تطرح في بداية القصة سؤالاً تجيب عنه أحداث القصة، لكأن هذا السؤال غايته إثارة الطفل من أجل البحث عن الإجابة.
وقد كررت ذلك في القصص كلها كما ذكرت في القصة الأولى هذا ولا يغيب عن المؤلفة الالتفات الى عناصر القص، ولكن هذه العناصر تتسرب داخل السرد ببساطة لتلائم فهم وعقلية الطفل ، فالمشكلة في هذه القصة أن الأب يريد أن يجلب حاجيات البيت، وفي الوقت نفسه لديه رغبة جامحة لرؤية المباراة على التلفاز بين إيطاليا وفرنسا، ولهذا يخطىء مجموعة أخطاء الأول: أنه نسي الورقة التي تحمل مايريد أن يبتاعه من السوق والثاني أنه اصطدم بالمعلبات المعروضة في المتجر. والثالث أنه أسرع في الطريق إلى البيت مما جعل الشرطي يحذره من السرعة.
وقد كانت جود المساعد والمنفذ فيما تقدم، فقد قدمت له ورقة أخرى سجلت عليها الحاجيات وساعدته في جمع المعلبات وإعادتها الى مكانها ،واعتذرت للشرطي عن سرعة والدها. إنها حبكة بسيطة ، ولكنها مشوقة، وتعجب الطفل، كما تجعله يتفاعل معها وتدفعه لكي يفكر أن يكون صورة مطابقة لجود الذكية والطامحة الى إرضاء والديها.
وفي قصة/إنني أستطيع/ كانت جود في الرابعة من عمرها ، ولا تستطيع لفظ بعض الحروف، فالخاء تلفظها حاء، والغين تلفظها عينًا، وعندما سألتها المعلمة عن اسم شقيق الأم فلفظتها / حالي/ وهكذا تكرر ذلك من خلال ألفاظ عدة ، فحزنت جود من سمير، الذي كان يصحح لها ألفاظها، مما اضطر المعلمة إلى الوقوف بجانب جود وتشجيعها على تجاوز ذلك قريبًا.
وعندما وجدت جود سمكة الصف تطفو على سطح الماء دون حراك قالت: السمكة عرقت بدلاً من غرقت ، فاعترض سمير، لكنه فهم ما تقصد بعد ذلك، وبدأ يدربها على لفظ الحروف بشكل صحيح. وعندما دفعت سميرًا على الأرض غضبت المعلمة، لأن الدفع يؤذي فاعتذرت جود من سمير، كما أن سميرًا وعدها ألا يسخر منها أيضًا. بعد ذلك تعود الأطفال على ألفاظ جود فنسيت مشكلتها، ولم تمض فترة طويلة حتى عادت تلفظ الحروف بشكل صحيح ، خاصة عندما كانت تلاعب شقيقها الصغير فيناغي وتردد وراءه :/ كم فرحت جود بإنجازها كما فرحت أمها أيضاً.
القصة عالجت مشكلة تربوية اجتماعية، وهي عدم قدرة بعض الاطفال على لفظ بعض الاحرف بشكل صحيح، وقد استطاعت المؤلفة أن تجد حلولا منطقية وتربوية لمشكلة جود، وما الصراع بينها وبين سمير إلا أسلوب فني لتصاعد الحدث، وشد الطفل لمعرفة ما سيجري في نهاية القصة . وتبرز الكاتبة النجار الموقف السليم لمعلمة جود التي لم تركز كثيرًا على جود في هذا الموضوع ولم توليه أهمية أو تضربها أو توبخها على ذلك ، بل وقفت بجانبها، وأخذت بيدها لكي تتجاوز مشكلتها بنفسها. إن المجموعة القصصية للكاتبة تغريد عارف النجار جديرة بالقراءة، وهي مفيدة للطفل لأنها تحقق له متعتين ضروريتين الأولى فكرية تربوية هادفة و الثانية متعة بصرية جمالية حيث إن الفنانة التشكيلية لجينة الأصيل جاءت بمنتهى الدلالة والتعبير المفيد الذي يثير انتباه الطفل، ويجعله يستمتع بالصورة ، كما يتمتع بالقصة وأحداثها.
٭ هيثم يحيى الخواجة