الحياة بوصفها أحجية (بزل) علينا تركيبها
الأمور اللافتة، هي الأمور الغير مادية والتي تحتوي على (قوة) هائلة، تستطيع تحريك الواقع، على سبيل المثال كيف من أن الحب يحتوي على مقدار هائل من القوة، وهي ليست طاقة عاطفية فحسب بل قوة فيزيائية، تغير حياتنا، وتحرك الجمادات فيها. ة، وهل بإمكانها أن تحرك الواقع الحالي أو تغير من اتجاه حركته؟! أتصور أنّ الرواية هل تملك (الذاكرة) قوة كهذه القوتحاول أن تجيب على هذا السؤال. الرواية من الناحية الفنية تشبه إلى حدّ بعيد لعبة (تركيب قطع الأحجية)، فهناك دمية تركتها الطفلة ليلى في بيتهم في مدينة أنّ العودة لم تتحقق، ويظل، تركتها على أمل العودة لاحقًا، الأهالي إلا48 قبيل العام يافا، على إثر هجمات تعرض لهمصير الدمية مجهولا، إلى أن تبدأ رحلة البحث عنها، وتبدأ رحلة تركيب قطع الأحجية، وهي ليست رحلة للبحث عن الدمية بقدر ما هي رحلة للبحث عن الوطن والأرض والذاكرة.
واية أنها لم تعتمد على طريق واحد للبحث عن الدمية، أو بالأحرى لكتابة سيرة أسرة فلسطينية لاجئة، بل اللافت في الرسيرة الوطن ككل، وإنما تعددت الطرق، بأسلوب شيق وسلس، ومن هذه الطرق في البحث عن الحكاية: وطن بكل المحطات التي مرت عليهأ.
اولًا: الجدة ليلى تكتب مذكراتها الشخصية، وهي مذكرات لا تنفصل عن سيرة .
ثانيًا: الجدة تحكي لأحفادها الأحداث التي مرت عليهم، وهي (الذاكرة الشفهية) التي لا غنى لأي باحث عن الاعتماد عليها بصفتها من أوثق المصادر ان يافا إلى شيكاغو
ثالثًا: البحث الذي تقوم به الحفيدة، باستخدام كافة الوسائل التقنية، لتتبع مسار الدمية .
رابعًا: حديث الجدة مع الدمية، بعد أن عادت إليها، وهي فرصة ثمينة لاسترجاع الذكريات “تكلمي معي مثلما كنت تتكلمين معي وأنا طفلة. أتذكرين عندما كنا نجلس تحت الطاولة الكبيرة في غرفة الطعام، وشرشف الطاولة الكروشيه يظللنا من كل المساحة بين الكراسي مكانا آمنا خاصا بنا لا يشاركنا به أحد؟الجوانب، فتصبح “.
خامسًا: سفر أروى، وهي الحفيدة، إلى بيروت للبحث عن أبيها في ذاكرة من كان قريبا منه، وهي مساحة لاكتشاف العائلة ككل. دها، وحكى لها عن قصة الحب
سادسًا: صديق والدها الذي التقته في بيروت واسمه عيسى، الذي روى لها الكثير عن والالتي كانت بين أمها وأبيها في الجامعة الأمريكية في بيروت.
سابعًا: السيدة اليهودية التي نقلت الدمية من يافا إلى أمريكا، تروي بعض خيوط القصة. وهي ذاتها التي أخذت دفتر السيدة التي لم تستطع أن تتعايش مع تأنيب المذكرات، لنجد ثغرة جديدة تتسرب منها خيوط الضوء لتتضح القصة. هذه الضمير، لذا هاجرت الى الولايات المتحدة وصارت ناشطة في مجال مؤازرة الفلسطينيين. كل تلك الأساليب ساهمت في عملية تركيب الصورة، وهو درس عملي في طريقة البحث العلمي، خصوصًا في مجال إنساني متشعب مثل البحث في التاريخ. الكاتبة على (تأثيث) البيئة بالروح الفلسطينية، فهي مثلا تؤثث شقة البطلة باللوحات المطرزة، والوسائد، وحلي عملتالفضة التي ترمز للثقافة الشعبية الفلسطينية، وتبث في البيت (رائحة البلاد). : فهل أنا فلسطيني أم أمريكي؟ هل أنا من المواضيع المهمة التي تطرقت لها الرواية، موضوع التعايش بين بيئتين وثقافتينشرقي أم غربي؟ تقول الجدة لحفيدتها “ربما من الصعب عليك أن تعيشي في عالمين مختلفين، لكنك تستطيعين أن تأخذي من كل واحد منهما الشيء الأفضل”. فأحفادي لا يسألون عني أبدا وفي موقف آخر، تقول السيدة الأمريكية لأروى: “يبدو أنك صبية لطيفة تحب جدتها. أما أنا”. ثم إن الاختلاف بين الأجيال، كان واضحًا في الرواية، فعندما تطلب شادية من ابنتها أروى أن تعود إلى البيت قبل الحادية عشرة مساء، ترد عليها: “لست صغيرة يا ماما! سأذهب إلى الجامعة قريبا”. ستذهب إلى عالم ديزني وتسألها: “هل كان عندكم عالم ديزني وأنتِ صغيرة؟” مثال آخر، ندى تقول لجدتها ليلى أنها فتجيب الجدة: “كان لدينا ما هو أفضل منه” لتبدأ الجدة في وصف موسم النبي روبين الذي يأتي بعد موسم قطف البرتقال في يافا. هذا المهرجان البسيط والتقليدي الذي تراه الجدة على أنه أفضل من عالم ديزني.
جزء من الروح الفلسطينية في النص نجده في الكلمات المكتوبة باللهجة الدارجة الجميلة، وهي عبارات تُميّز بنمط تنسيق مختلف يسهل على القارئ ملاحظتها. من قبيل: “سامحني يابا! سامحيني يمّا”، أو باستخدام الأمثال الشعبية مثل “الشهر ورا الباب”. رواية بدا طبيعيا، كالشخصيات التي نراها في الواقع، بعضها ملموس ونراه أمامنا، وبعضها غائب رسم الشخصيات في اللكنه يؤثر على حياتنا بشكل أو بآخر، مثلا ترسم الكاتبة لنا شخصية الأب، الذي لا تعرفه ابنته أروى، بعد اختفائه في وريا في حياتها “فتتخيله وهو يضمها بكل حنان ويعود ظروف الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، إلا أنه يظل يلعب دورًا محليعيش معها ومع أمها، فتعرّفه على صديقاتها وتلوّح له من بعيد عندما يحضر أنشطة وحفلات المدرسة..”. كما أن الكاتبة برعت في الاهتمام برسم الشخصيات الثانوية، وإضافة النكهة الأمريكية على مجمل القصة، فهذا الرجل مريكي الذي ذهبت له الفتاتان سارة وأروى تبحثان عن خيوط قد توصلهما إلى مسار رحلة الدمية، تصفه الكاتبة: “وقف الأأمامهما رجل ضخم أصلع الرأس، لحيته بيضاء طيلة، رث الملابس ويحمل بندقية صيد في يده. نا أعرف خداع شركتكمانظر الرجل إليهما بغضب وصاح قائلًا: “هل أنتما من شركة تحصيل الديون؟ أ..”. الرواية فيها دعوة عميقة للتأمل، فالصور التي ترسمها بسيطة في ظاهرها لكنها عميقة جدًا في مضمونها، فعندما تصف الدقائق الأخيرة للأسرة في بيتهم في يافا: “كيف أصرّت أمي، عندما حان وقت الرحيل، على أن تسقي النباتات، وتغطي من الغبار الأثاث حتى تحميه..” الرواية تتفنن في وصف (قوة الزمن)، وكيف أنّ هناك من الأمور ما ستتضح ولكنها تحتاج إلى وقت، فالبطلة لديها أخ اسمه عوني، كان يتعرض للضرب من قبل والده خصوصا يوم يأتي بالشهادة المدرسية، حينها يسمع من أبيه شتى أصناف “.. لتومض لاحقا وبعد سنوات طويلة فكرة في ذهن ليلى أن أخاها كان يعاني من النعوت: “كسول! وفاشل ولا نفع منكصعوبات في التعلم وهو تصنيف لم يكن معروف آنذاك، فلم يكن هناك سوى تصنيفان لطلاب المدرسة: الشاطر والكسول. جدا من والدها وكما أنّ للزمان قوة، فللمكان كذلك، فأروى “مشت في شوارع بيروت وهي تشعر أنها قريبة”. المكان قد يكون هو المساحة التي تختبئ فيه الذاكرة.
في بيروت تلتقي أروى بعمتها. أروى وجدت أن العمة هي مصدر مهم لمعرفة كل ما يتعلق بطفولة أبيها، ولكم أن تتخيلو أين تخبئ العمة ذاكرتها؟ “أنزلت طنط ميمي صندوقا كرتونيا وى، وأخرجت منه علبة معدنية دائرية وهي تقول: لقد احتفظت أمي بصور أخي صلاح في صغيرا من العلية بمساعدة أرعلبة البسكوت المعدنية هذه قربها حتى مماتها”. المكان يحتفظ حتى بالرائحة، سألت ليلى نفسها وهي تفكر في مدينتها يافا: “يا ترى هل شجرة الياسمين المتسلقة خارج الجو كل صباح؟غرفتي ما زالت مكانها تعطر “. الرواية أبدعت في وصف قوة الزمن وقوة المكان، والرابط الذي يبقيهما وهو (الذاكرة)، وفي نهاية الرواية يقول الشاب اليهودي الذي سكن بيتهم، يقول لأمه: “وكما تعرفين يموت الكبار وينسى الصغار” لترد ليلى: “الصغار لن ينسوا أبدا.. أبدا.. مهما طال الزمن”. في مكان عملي، في المدرسة، كان لدينا زميل وهو معلم فلسطيني، أخبرته أنني شاهدت فيلما وثائقيا عن صناعة الصابون باستخدام زيت الزيتون في نابلس، فقال أنه موجود في الأردن وسيجلب لي منه بعد العطلة الصيفية، هذا الصابون مصنوع قليدية للغاية، حتى أن شكل المكعب ليس متناسقا تماما. هذا المكعب التقليدي % زيت الزيتون، ومصنوع بطريقة ت100من جعلني أحب مدينة نابلس رغم أني لم أرها، وجعلني أشم طيبها، وصرت في كل عام أنتظر انتهاء العطلة الصيفية لأحصل على ما يربطني بها ي الجودة فقط، وإنما لقوة فيه، هذه القوة التي هي تركت كل أنواع الصابون، لأجد أن صابون نابلس أفضل منه، ليس فطاقة غير مرئية، قد تكون لها قدرة على التغيير لا نتخيلها!
أصحاب البيت الاصليين يعودون لزيارة بيتهم في فلسطين فهل سيسمح لهم بالدخول ولو لدقائق؟
قراءة راقية لرواية رائعة سلمت الايادي ودام هذا الابداع باذخ العطاء