المقال: هداية الرزوق
بِالكَثيرِ مِنِ الأَمَلِ المَمزوجِ بِنكهة الشّوقِ والْحَنينِ تَصْحُبنا تِلكِ الفتاةُ اليافِعَةُ إلى عوالم وأراضٍ مترامية الأطراف، عَبرَ رِحلَة تَختلطُ فيها المسرّات بالانكسارات، فتشدو تلك الفتاةُ كطيرٍ يُحلّق بلا هوادةٍ باحثاً عن الحريّة والانعتاق!
وَلربّما كان لعنوان العمل الأدبيّ ( سَتشرقُ الشّمسُ وَلو بعد حينٍ) أَثَرٌ كبيرٌ في إضرام الأمل والحبّ والتّفاؤل منذ اللّحظة الأولى الّتي يلجُ فيها المُتلقي عَتبات ذاك النّصّ المصاغ باحترافيّة عالية تشي بسلاسة المفردات وحداثتها، فذكاء الكاتبة جعلها تطوّع لغتها بتفرّد واضحٍ حين انتقت لهذا الجيل اليافع ما يجذبهم من مفردات ( السّلفي، الواتس أب، خرائط الجوجل..).
ولعلّ تأمّلنا في انتقاء الأسماء الّتي عمدت الكاتبة تغريد النّجار لاختيارها لشخصيّاتها يُفصح عن تلك الرّسائل الضّمنيّة الّتي أرسلتها المؤلّفة عبر النّصّ، فشادن تلك الفتاة اليافعة الّتي تعرّضت للعديد من الأحزانِ والمصاعبِ الدّامية الّتي من شأنها أن تُحدث شرخاً في حياة أي إنسانٍ ترفضُ إلاّ أن تكون أيقونةٌ للفرح والسّرور والابتهاجِ فكانَ لها من معنى اسمها نصيب! لا بل تَجاوزت البحث عن السّرور والفرحِ لتكون أداة فاعلةً للخير تبعثها مشاعرها الدّافئة لِمساعدة الآخرين والاطمئنان على أحوالهم فنراها تلاعِبُ أميرة تارةً، وتتقاسمَ شطرات النّومِ مع ميساء تارة أخرى، وتسيرُ خلف عائلة سوريّة لا تعرفها ليس إلاّ للاطمئنان للمصير الّذي آلت إليه!
أمّا انتقاء اسم ( ماجد) لشخصيّة وطنيّة أصيلةٍ فَيُحيل إلى ذكاءٍ متّقدٍ تتمتّعُ به المؤلّفة سيّما أنّ الاسم يدلّ على ملامح تلكِ الشّخصيّة الغيورة على أرضها ووطنها؛ فماجد السّخيّ، الأصيل، الشّريف، ذو المروءة، الحسن الخلق، الخَيِّر؛ يُثبت لنا من خلال الأحداث المتراميةِ هنا وهناك طيب معدنهِ ونقاءِ طَبعهِ حين هبّ مدافعاً عن فتاةٍ لا يعرفُ عنها إلاّ أنّها بعمرِ أخته، ناهيك عن انسلاخهِ من تلكِ الجماعةِ الّتي خَرَجتْ عَنْ أخلاقِ الأوفياءِ حين باغتت أهالي قريّة عُزّلٍ مُحدثين الهلع والفزع في نفوس النّساء والأطفال والشّيوخِ.
كما يُمكنُ للمتلقي التّأمّل مليّاً باسم ( سميح) صَاحِب جُودٍ وَكَرَمٍ وَسَمَاحَةٍ تَظهر جليّاً في جميع تصرفاته تجاه صديقه المأزومِ وعائلتِهِ المنكوبةِ، ولعلّ هذا يزيدنا تثبّتاً من احترافيّة الكاتبة في انتقاء أسماء الأبطال الّتي تَخلق المزيد من التّعلّق في ذاتيّة المتلقي إزاء الشّخصيّةِ في العمل الرّوائيّ.
أمّا الزّمن في العمل الرّوائيّ ( ستشرق الشّمس ولو بعد حين) فأشبه بآلة مُتحرّكة تنقّلَت فيها المبدعة تغريد النّجار ببراعة مُطلقة؛ فَعبر هذا الزّمن المتُنقّل الموسوم بالكثير من الصّخب والعنفِ اصطحبتنا شادن في رحلة تاريخيّة تُفصحُ لنا عن وقائع وأحداث حقيقية جرت في أرض سوريا الحبيبة؛ بحيث رسمت تغريد النّجار مشهد الزّمن بتمكّن ظاهرٍ زاوجت فيه بين البدايات العصيبة وما دار بها من فجائع وهزائم وانكسارات، واللحظات التي عاشتها شادن مع أسرتها أثناء رحلة الفرار والبحث عن الاستقرار.
وَقد استعارت الكاتبة تغريد النّجار مجريات المشهد السّياسيّ موظّفةً إيّاها في سياق المتن الحكائيّ؛ لتعبّر لنا عن أيدولوجيّتها التي تُفصِحُ عن فكرٍ مثقفٍ، وشعورٍ متّقدٍ
عميقٍ، فالرّواية الّتي شّكّلت الكاتبة عناصرها بانتظامٍ تَصلح لأنْ تكون سِجلاً متمازجاً يحتوي في طيّاته الكثير من الحكمِ والعِبَرِ إلى جانبِ اللّغات المتعدّدة (الألمانيّة، الإيطاليّة،السّويديّة، الفرنسيّة)، إضافة إلى أسماء المدنِ والأماكن والمعالم الأثريّة (روما، نافورة الأمنيات، هامبورج، كوبنهاجن، مالمو).
وعلى ذلك فإنّ الكاتبة تستنطق الذّاكرة، وتستحضر في أذهاننا شيئاً من الاستنكار والرّف من خلال عملها الأدبيّ الّذي سجّل بدقّة لوحاتٍ عكست ما يُعاني منه المواطن السّوريّ إبّان الحرب الشّعواء، والّتي دفعت بالكثيرين إلى تلك الهجرة غير الشّرعيّة ما أدى إلى فقدان الأرواح البرئية، لافتةً أعماقنا إلى مشاهد القتل والدّمار وضياع الهُويّة والتّنكر للذات وللأرض والعشق والوطن، فنجد عملها الرّوائيّ يعجّ بالمفردات القويّة التي تُحيل إلى مشهد يستفزّ عقليّة المتلقّي فيدفعه إلى الانغماس في متابعة قراءة هذا العمل الأدبيّ الّذي يروي لنا حكاية شادن الّتي شدَت وترنّمت بحزن وفرحٍ ولوعة ولهفة وخوفٍ وأملٍ حتّى حقّقت مبتاغها لتعلن لنا عن تباشير الابتهاج وإرهاصات الفرج القريب!