من الذكريات بقلم تغريد النجار
عندما كنّا أطفالًا صغارًا كانَ للعيدِ طعمٌ آخرُ. كنّا نَعُدُّ الأَيّامَ لقُدومِهِ، ونُنْشِدُ أهازيجَ ذاتَ علاقةٍ بالعيدِ. أذكرُ منها هذهِ الأُهزوجةَ التي كانَ إخوتي يتعمّدون إخافتي بها، لأنّي كنتُ أعتبر “الشقراءَ” في العائلةِ، فكنتُ عندما أسمعُ إخوتي ينشدونَها ويشيرونَ إليَّ بخبث أبكي وأرتعدُ خوفًا من ان أذبح بدلا من بقرة السيد كما تقول الأهزوجة:
بكرة العيدْ وبنعيّدْ
ندبح بقرة السيّدْ
والسيّد ما لو بقرةْ
ندبح بنته هالشقرا
وكنا نتدلّلُ ونشترطُ على أهلنا أنْ يكونَ كلُّ ما نلبسه صباحَ العيدِ جديدًا، حتّى الملابسِ الداخليةِ والجواربِ، والحذاءِ بلا شكٍّ. كان الوقتُ يمرُّ بطيئًا جدًّا ونحنُ ننتظرُ صباحَ العيدِ، فيفردُ أحدُنا ملابسَهُ على كرسيٍّ أمامَ سريره أو فرشتِهِ، والويلُ لمنْ يتجرّأُ من إخوتنا على لمسِ ملابسِنا بغير إذن.في صباحِ اليومِ التالي كنّا نستيقظُ معَ صفير “صراصيرِ الصبحِ”، ونلبسُ ملابسَنا الجديدةَ، وننتظرُ أنْ يعودَ الكبارُ من صلاةِ العيدِ لكيْ نأخذَ العيديّةَ.
نقفُ طابورًا أمامَ جدي (رحمة الله عليه)، نعيّدُ عليه ونقبّلُ يدَه، فيعطي للصغير منّا 5 قروشٍ، وللكبير 10 قروشٍ. في تلكَ الأيامِ كانَ منَ الممكنِ لأحدِنا أنْ يشتريَ كثيرًا منَ الأَشياءِ بخمسةِ قروشٍ (أيْ 50 فلسًا).
أبو لطفي وأولادُه كانوا يركّبونَ مراجيحَ العيدِ قبلَه بيومٍ، في الساحة القريبة من بيتنا. ويا لسعادتنا ونحنُ ندفع نصفَ قرشٍ (تعريفةً) لصاحبِ المرجيحة، حتى نحجزَ دورًا، وحين نركب نتمسك جيدًا بالحبالِ، وصراخُنا الممزوجُ بالفرحِ والخوفِ معًا يملأ المكانَ، وصياحُنا يتصاعدُ: “علّيها… علّيها… علّيها”! فتنخلعَ قلوبُنا حينَ يوشكُ صندوقُ المرجيحةِ أنْ ينقلبَ بنا!
المطبخ في البيتِ منذُ الليلةِ الفائتةِ كانَ مثلَ خليةِ نحلٍ. صواني المعمولِ والمعجّناتِ والخبزِ تروحُ وتجيءُ منَ الفرنِ القريبِ وإليه. أكثر من “بابور كاز” في المطبخ يوشوش على كل منه طنجرة كبيرة تغلي وتبقبق يتعالى منها البخار الذي يملأ المطبخ ويغبش زجاج النافذة واليومَ روائحُ الأكلِ تملأُ الدارَ استعدادًا لغداءِ العيدِ معَ كلِ أفرادِ العائلةِ، الجدِّ والجدّةِ والأبِ والعمات.
كانت سعادتُنا أكمل ما يكون إذا اصطحبنا أبي لنعايد على جيرانِنا أو على أقاربنا؛ ففي كلِّ بيتٍ سنأكلُ المعمولَ بالتمرِ والجوزِ، ونسعد عندما يعيّدنا بعضُ الأقاربِ شيئًا منَ القروشِ، فنضعُها في شنطةِ العيديّاتِ، ونحرصَ عليها حتّى نَعُدَّ الغلَّةَ في آخر النهار، لنرى منْ حصلَ على أكبرِ عيديةٍ.
وبعد أن نتناولَ الغداءَ ننطلقُ إلى الحارة لنلعبَ معَ أقرانِنا من الجيرانِ، متجاهلينَ توصياتِ أهلنا بالمحافظة على ملابسنا الجديدة من الاتّساخ.
ذكرياتُ العيدِ لا تنقضي ولا تُنْسَى حلاوتُها؛ تخالطُها براءةُ الطفولةِ، وبساطةُ الحياةِ، وتآلفُ الناسِ وعفويّتُهُمْ. ما أحلى تلكَ الأيّام!
-
من خبأ خروف العيد؟$7.00