عن رواية “مصنع الذكريات” لأحلام بشارات
بقلم: هديل مقدادي
قد يأسرك منظر طبيعي خلاب، أو لحن جميل أحيانًا، وقد تأسرك رواية أوقصة تعيش معها في طفولتك وتظل تتذكر صفحاتها وتشم رائحة أوراقها كلما تقدم بك العمر، تمامًا كما اللحن يذكرك أحيانًا بحادثة او بموقف معين. ولكن من المثير حقًّا أن تأسرك رواية لأنها تتقاطع مع وجدانك ومع حياتك… أو ربما لأنها رواية تدور حولك بزخم مشاعرك وأحاسيسك وتفاعلك مع الحياة. وهذا ما لمسته في رواية “مصنع الذكريات” لأحلام بشارات الصادرة عن دار السلوى في عمّان.
في روايتها الجديدة لليافعين، تنطلق أحلام بشارات نحو فضاء آخر. فضاء يختلف كليًّا عن فضاءات رواياتها السابقة لليافعين بالرغم من أهمية كل رواية منها وخصوصيتها. تتفرد أحلام بنص مختلف كليًّا وبأسلوب فريد لتحفر في النفس الإنسانية، التي ربما أعني بها هنا النفس الأقرب إلى الفطرة وإلى الطبيعة وإلى بساطة الحياة، بعمق لتصل إلى المنبع الرئيس في حياة كل واحد منها. هذا المنبع الذي يسير بنا ويتعرج ويتفرّع إلى دروب كثيرة… الذكريات… الحقيقة الباقية… أوراق الأشجار المتجددة بعد انتهاء فصل الخريف.
يدير جابر، الشخصية الرئيسة في القصة، دفّة الأحداث ومعه يدخل القارئ إلى أعماق عقله وقلبه ويبدأ بالغناء معه أغنية طفولته المحببة وعلى وقع الأغنية ولحنها يظهر لنا باقي الأبطال الذين يشكّلون وحدة لا تنفصل ولا تتجزأ، فنطير معهم إلى الشمس المريضة ونتسلق معهم قمة جبل العاصور في فلسطين، ونجلس معهم تحت شجرة الخروب، وبوسع كلٍّ منا أثناء هذه الأحداث أن يسجّل ذكرياته الخاصة عن كل مقطع في الرواية فتنطبع في وجدانه على أنها جزء من ذكرياته الخاصة. وعلى الرغم من خصوصية المكان الذي تدور فيه أحداث هذه الرواية إلا أن ذلك لا يمنع القارئ من التماهي مع أحداثها وشخصياتها لأنها ببساطة حكاية إنسان… أيّ إنسان، وهذا أيضًا ما يجعلها ثنائية التوجّه إن جاز التعبير، فهي في الأصل رواية لليافعين، أبطالها في الصف العاشر، ولكنها بالتأكيد ليست محصورة بهم.
تتنقل الرواية بين عالم الأحلام والواقع، وقد أوجدت الكاتبة من عالم الأحلام جسرًا للوصول إلى الواقع وتقبّل جابر لفراق أمه “غزالة” هذا الفراق الذي جعل جابر يريد أن يعلّب الذكريات من حوله، كي لا يفقد الصّور واللّحظات الثمينة.
يساعد الأصدقاء الأربعة جابر على تخطي ألم فقده لأمه “غزالة” وتنتقل الرواية عبر صفحاتها في النفس الإنسانية التي تبحث عن السكينة والسعادة منذ الأزل، وقد تختلف رؤية الأصدقاء للحياة كما تختلف طباعهم ولكنّهم في النهاية يتشاركون هذا الحمل الإنساني الهائل، حمل الذكريات الذي قد يثقل كاهلنا أحيانًا، وبالرغم من ذلك فنحن نلجأ إليه لنخفف آلامنا فتذوب الذكرى في روحنا وتنصهر إنصهار الضوء في العتمة فتتبخر الأحزان وتتضاءل.
لا مانع إذًا في أن ينشئ كلّ منا مصنعًا لذكرياته فيعلّب الحب، والضحكات، والصور وأسماء الأشخاص، ويعلّب رائحة التراب وحبات المطر، لا مانع في أن يتحوّل جابر إلى صانع للذكريات ليحفظ صورة أمه ويحارب بذلك النسيان. ولا مانع في أن نفتح بين الفينة والأخرى هذا الصندوق لنخرج الذكريات المتشبّثة بالحقيقة. رواية قد تُقرأ لعدة مرات وسنكتشف فيها في كل مرة شيئا جديدًا، وسوف تسجل ذاكرتنا عنها الكثير من الصور… ألسنا جميعًا نعمل في مصانع للذكريات؟ أليست الذكريات وقودنا للانطلاق نحو دروب الحياة؟